سورة يوسف - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)}
{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الر} الكلام فيه وفي نظائره شهير وقد تقدم لك منه ما فيه إقناع، والإشارة في قوله سبحانه: {تِلْكَ ءايات الكتاب} إليه في قول، وإلى {ءايات} هذه السورة في آخر، وأشير إليها مع أنها لم تذكر بعد لتنزيلها لكونها مترقبة منزلة المتقدم أو لجعل حضورها في الذهن نزلة الوجود الخارجي والإشارة بما يشار به للبعيد. أما على الثاني فلأن ما أشير إليه لما لم يكن محسوسًا نزل منزلة البعيد لبعده عن حيز الإشارة أو العظمة وبعد مرتبته وعلى غيره لذلك، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار كالمتباعد.
وزعم بعضهم أن الإشارة إلى ما في اللوح وهو بعيد، وأبعد من ذلك كون الإشارة إلى التوراة والإنجيل أو الآيات التي ذكرت في سورة هود؛ والمراد بالكتاب إما هذه السورة أو القرآن، وقد تقدم لك في يونس ما يؤنسك تذكره هنا فتذكر {المبين} من أبان عنى بأن أي ظهر فهو لازم أي الظاهر أمره في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه أو الواضح معانيه للعرب بحيث لا تشتبه عليهم حقائقه ولا تلتبس عليهم دقائقه وكأنه على المعنيين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع واستتر ولا يعد هذا من حذف الفاعل المحظور فلا حاجة إلى القول بأن الإسناد مجازي فرارًا منه. أو عنى بين عنى أظهر فهو متعد والمفعول مقدر أي المظهر ما فيه هدى ورشد. أو ما سألت عنه اليهود أو ما أمرت أن تسئل عنه من السبب الذي أحل بني إسرائيل صر. أو الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص.
وعن ابن عباس. ومجاهد الاقتصار على الحلال والحرام وام يحتاج إليه في أمر الدنيا، وأخرج ابن جرير عن خالد بن معاذ عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك: بين الله تعالى فيه الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم، وهي ستة أحرف: الطاء. والظاء. والصاد. والضاد. والعين. والحاء المهملتان، والمذكور في الفرهنك. وغيره من الكتب المؤلفة في اللغة الفارسية أن الأحرف الساقطة ثمانة، ونظم ذلك بعضهم فقال:
هشت حرفست أنكه أندر فارسي *** نايدهميتاينا موزى بناشى أندرين
معنى معافبشنوا كنون تاكدام *** أست أن حروف ويا دكيرثا
وحا. وصاد. ضاد. وطا. *** وظا. وعين. وقاف
ومع هذا فالأمر مبني على الشائع الغالب وإلا فبعض هذه الأحرف موجود في بعض كلماتهم كما لا يخفى على المتتبع، ولعل الوصف على الأقوال الأول أمدح منه على القول الأخير، والظاهر أن ذلك وصف له باعتبار الشرف الذاتي.
وقوله سبحانه:


{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)}
{إِنَّا أنزلناه قُرْءانًا عَرَبِيًّا} وصف له باعتبار الشرف الإضافي وضمير الغائب للكتاب السابق ذكره فإن كان المراد به القرآن كله كما هو الظاهر المانسب للحال فذاك وإن كان المراد به هذه السورة فتسميته قرآنًا لأنه اسم جنس يقع على الكثير والقليل فكما يطلق على الكل يطلق على البعض، نعم إنه غلب على الكل عند الاطلاق معرفًا لتبادره، وهل وصل بالغلبة إلى حد العلمية أولا؟ فيه خلاف، وإلى الأول ذهب البيضاوي قدس سره فتلزمه الألف واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأول، ووقع في كتب الأصول أنه وضع تارة للكل خاصة. وأخرى لما يعمه، والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواترًا، ونظر فيه بأن الغلبة ليس لها وضع ثان وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له، ولذا لزمن العلم بها اللام أو الإضافة إلا أن يدعى أن فيها وضعًا تقديريًا كذا قيل؛ وممن صرح بأن التعيين بالغلبة قسيم للتعيين بالوضع العلامة الزرقاني. وغيره لكن تعقبه الحمصي فقال: إن دلالة الاعلام بالغلبة على تعيين مسماها بالوضع وإن كان غير الوضع الأول فليتأمل.
وعن الزجاج. وابن الأنباري أن الضمير لنبأ يوسف وإن لم يذكر في النظم الكريم، وقيل: هو للإنزال المفهوم من الفعل، ونصبه على أنه مفعول مطلق، و{قُرْءانًا} هو المفعول به، والقولان ضعيفان كام لا يخفى، ونصب {قُرْءانًا} على أنه حال وهو بقطع النظر عما بعده وعن تأويله بالمستق حال موطئة للحال التي هي {عَرَبِيًّا} وإن أول بالمشتق أي مقروءًا فحال فير موطئة؛ و{عَرَبِيًّا} إما صفته على رأي من يجوز وصف الصفة، وإما حال من الضمير المستتر فيه على رأي من يقول بتحمل المصدر الضمير إذا كان مؤولا باسم المفعول مثلًا، وقيل: {قُرْءانًا} بدل من الضمير، و{عَرَبِيًّا} صفته، وظاهر صنيع أبي حيان يقتضي اختياره، ومعنى كونه {عَرَبِيًّا} أنه منسوب إلى العرب باعتبار أنه نزل بلغتهم وهي لغة قديمة.
أخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية فلما أكل من الشجرة سلبها فتكلم بالسريانية فلما تاب ردّها الله تعالى عليه، وقال عبد الملك بن حبيبن: كان اللسان الأول الذي هبط به آدم عليه السلام من الجنة عربيًا إلى أن بعد وطال العهد حرف وصار سريانيًا وهو منسوب إلى أرض سورية وهي أرض الجزيرة. وبها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق، وكان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف وكان أيضًا لسان جميع من في السفينة إلا رجلًا واحدًا يقال له: جرهم فإنه كان لسانه العربي الأول فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته وصار اللسان العربي في ولده عوص أبي عاد.
وعبيل. وجاثر أبي ثمود. وجديس، وسميت عاد باسم جرهم لأنه كان جدّهم من الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشد بن سام إلى أن وصل إلى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنوا إسماعيل عليه السلام فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي، وقال ابن دحية: العرب أقسام: الأول عاربة وعرباء وهم الخلص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح، وهي عاد، وثمود. وأميم. وعبيل. وطسم. وجديس. وعمليق. وجرهم. ووبار، ومنهم تعلم عليه السلام العربية، والثاني المتعربة قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخلص وهم بنو قحطان، والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضًا وهم بنو إسماعيل وهم ولد معد بن عدنان بن أدد اه.
وقال ابن دريد في الجمهرة العرب العاربة سبع قبائا: عاد. وثمود، وعمليق. وطسم. وجديس. وأميم. وجاسم، وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية يعرب بت قحطان وهو مراد الجوهري بقوله: إنه أول من تكلم بالعربية، واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفًا ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه. والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا} إلخ ثم قال: «ألهم إسمعيل عليه السلام هذا اللسان العربي إلهامًا» وقال الشيرازي في كتاب الألقاب: أخبرنا أحمد بن إسماعيل المداني أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحق الماشي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف بن السكيت قال: حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة» وروي أيضًا عن ابن عباس أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية المحضة، وأريد بذلك على ما قاله بعض الحفاظ عربية قريش التي نزل بها القرآن وإلا فاللغة العربية مطلقًا كانت قبل إسماعيل عليه السلام وكانت لغة حمير. وقحطان، وقال محمد بن سلام: أخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حميرًا وبقايا جرهم وقد جاورهم وأصهر إليهم، وذكر ابن كثير أن من العرب من ليس من ذريته كعاد.
وثمود. وطسم. وجديس. وأميم. وجرهم. والعماليق. وأمم غيرهم لا يعلمهم إلا الله سبحانه كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه وكان عرب الحجاز من ذريته وأما عرب اليمن وهم حمير فالمشهور كما قال ابن ماكولا: إنهم من قحطان واسمه مهزم وهو ابن هود، وقيل: أخوه، وقيل: من ذريته، وقيل: قحطان هو هود، وحكى ابن إسحق. وغيره أنه من ذرية إسمعيل، والجمهور على أن العرب الحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من ذريته عليه السلام وأن اللغة العربية مطلقًا كانت قبله وهى إحدى اللغات التي علمها آدم عليه السلام وكان يتكلم بها وبغيرها أيضًا وكثر تكلمه فيما قيل: بالسريانية، وادعى بعضهم أنها أول اللغات وأن كل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفًا أو اسطلاحًا، واستدلوا على أسبقيتها وجودًا بأن القرآن كلام الله تعالى وهو عربي وفيه ما فيه، وهي أفضل اللغات حتى حكى سيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بفيرها لمن يحسنها من غير حاجة، وبعدها في الفضل على ما قيل: الفارسية الدرية حتى روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه جواز قراءة القرآن بها سواء في ذلك ما كان ثناءًا كالإخلاص وغيره. وسواء كانت عن عجز عن العربية أم لا، وروي عن صاحبيه جواز القراءة في الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها، وفي النهاية. والدارية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم.
وقد عرض ذلك على النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه، نعم الصحيح أن الإمام رجع عن ذلك، وفي النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية للشر نبلالي ما ملخصه: حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتبه بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته وحرمة مسه لغير الطاهر اتفاقًا كقراءته وعدم صحة الصلاة بافتتاحها بالفارسية وعدم صحتها بالقراءة بها إذا كانت ثناءًا واقتصاره عليها مع القدرة على العربية وعدم الفساد بما هو ذكر وفسادها بما ليس ذكرًا جرد قراءته ولا يخرج عن كونه أميًا وهو يعلم الفارسية فقط وتصح الصلاة بدون قراءة للعجز عن العربية على الصحيح عند الإمام. وصاحبيه، وأطال الكلام في ذلك، وفي معراج الدراية من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوى والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري ومع هذا لا ينكر فضل الفارسية، ففي الحديث: «نسان أهل الجنة العربي. والفارسي الدري» وقد اشتهر ذلك لكن ذكر الذهبي في تاريخه عن سفيان أنه قال: بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية.
وأخرج الطبراني. والحاكم. والبيهقي. وآخرون عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عرب». وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة ما يعضده، ولا يخفى على الخبير زايا الكلام أن في الكلام العربي من لطائف المعاني ودقائق الأسرار ما لا يستقل بأدائه لسان ويليه في ذلك الكلام الفارسي فإن كان هذا مدار الفضل فلا ينبغي أن يتنازع اثنان في أفضلية العربي ثم الفارسي مما وصل إلينا من اللغات وإن كان شيئًا آخر فالظاهر وجوده في العربي الذي اختار سبحانه إنزال القرآن به لا غير، وقد قسم لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذا اللسان ما لم يقسم لأحد من فصحاء العرب، فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: «يا رسول الله مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها».
وأخرج البيهقي من طريق يونس عن محمد بن أبراهيم بن الحرث التيمي عن أبيه من حديث فيه طول قال رجل: يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك؟ قال: «حق لي فانما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين»، هذا وجوز أن يكون العربي منسوبًا إلى عربة وهيناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر:
وعربة أرض ما يحا حرامها *** من الناس إلا اللوذعي الحلاحل
والمراد لغة أهل هذه الناحية، واستدل جماعة منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه. وابن جرير. وأبو عبيدة. والقاضي أبو بكر بوصف القرآن بكونه عربيًا على أنه لا معرب فيه، وشدد الشافعي النكير على من زعم وقوع ذلك فيه، وكذا أبو عبيدة فانه قال: من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول.
ووجه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس: وغيره في تفسير ألفاظ منه أنها بالفارسية. أو الحبشية. أو النبطية كذا بأن ذلك مما اتفق فيه توارد اللغات، وقال غيره: بل كان للعرب التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لأهل سائر الألسنة في أسفار لهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاورتها حتى جرت مجري العربي الفصيح ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن.
وقال آخرون: كل تلك الألفاظ عربية صرفة ولكن لغة العرب متسعة جدًا ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الأجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر. وفاتح، ومن هنا قال الشافعي في الرسالة: لا يحيط باللغة إلا نبي.
وذهب جمع إلى وقوع غير العربي فيه، وأجابوا عن الآية بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن العربية، فالقصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بلفظة عربية.
وقال غير واحد: المراد أنه عربي الأسلوب، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو إبراهيم للعملمية والعجمة، ورد بأن الأعلام ليست محل خلاف وإنما الخلاف في غيرها، وأجيب بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس ونظر فيه، واختار الجلال السيوطي القول بالوقوع، واستدل عليه بما صح عن أبي ميسرة التابعي الجليل أنه قال: في القرآن من كل لسان، وروي مثله عن سعيد بن جبير. ووهب بن منبه.
وذكر أن حكمة وقوع تلك الألفاظ فيه أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلابد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالًا للعرب وأيضًا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم ملاسلًا إلى كل أمة ناسب أن يكون في كتابه المبعوث به من لسان كل قوم شيء، وقد أشار إلى الوجه الأول ابن النقيب.
وقال أبو عبد الله القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء: والمنع عن أهل العربية الصواب تصديق القولين جميعًا وذلك أن هذه الأحرف أصولها عجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الأحرف بكلام العرب فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: إنها غجمية فهو صادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي. وابن الجزري. وآخرون، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام ما يتعلق بهذا المبحث أيضًا فليتفطن وليتأمّل.
واحتج الجبائي بالآية على كون القرآن مخلوقًا من أربعة أوجه: الأول وصفه بالإنزال، والقديم لا يجوز عليه ذلك، الثاني وصفه بكونه عربيًا، والقديم لا يكون عربيًا ولا فارسيًا، الثالث أن قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا} يدل على أنه سبحانه قادر على أنزاله غير عربي وهو ظاهر الدلالة على حدوثه.
الرابع أن قوله عز سأنه: {تِلْكَ ءايات الكتاب} [يوسف: 1] يدل على تركبه من الآيات والكلمات وكل ما كان مركبًا كان محدثًا ضرورة أن الجزء الثاني غير موجود حال وجود الجزء الأول.
وأجاب الأشاعرة عن ذلك كله بأن قصارى ما يلزم منه أن المركب من الحروف والكلمات محدث وذلك مما لا نزاع لنا فيه، والذي ندعي قدمه شيء آخر نسميه الكلام النفسب وهو مما لا يتصف بالإنزال ولا بكونه عربيًا ولا غيره ولا بكونه مركبًا من الحروف ولا غيرها، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هنا فلا تغفل.
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه من البدائع أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أنه خارج عن طوق البشر مشتمل على ما يشهد له أنه منزل من عند خلاق القوى والقدر، وهذا بيان لحكمة إنزاله بتلك الصفة، وصرح غير واحد أن لعل مستعملة عنى لام التعليل على طريق الاستعارة التبعية، ومرادة من ذلك ظاهر، وجعلها للرجاء من جانب المخاطبين وإن كان جائزًا لا يناسب المقام. وزعم الجبائي أن المعنى أنزله لتعقلوا معانيه في أمر الدين فتعرفوا الأدلة الدالة على توحيده وما كلفكم به، وفيه دليل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح من حصل منه ذلك ومن لم يحصل، وفيه أنه عزل عن الاستدلال به على ما ذكر كما لا يخفى.


{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بما أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي نخبرك ونحدثك من قص أثره إذا اتبعه كأن المحدث يتبع ما حدث به وذكره شيئًا فشيئًا ومثل ذلك تلى {أَحْسَنَ القصص} أي أحسن الاقتصاص فنصبه على المصدرية إما لاضافته إلى المصدر. أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص، وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل، والمفعول به محذوف أي مضمون هذا القرآن، والمراد به هذه السورة، وكذا في قوله عز وجل: {ا أَوْحَيْنَا} أي بسبب إيحائنا.
{إِلَيْكَ هذا القرءان} والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو، ولعل كلمة {هذا} للإيماء إلى تعظيم المشار إليه.
وقيل: فيها إيماء إلى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى: {قُرْءانًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] بأن يكون المراد بذلك المجموع وفيه تأمل، وأحسنيته لأنه قد قص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة، وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين، وجوز أن يكون هذا المذكور مفعول {نَقُصُّ}.
وصرح غير واحد أن الآية من باب تنازع الفعلين، والمذهب البصري أولى هنا أما لفظًا فظاهر وأما معنى فلأن القرآن كما سمعت السورة وإيقاع الإيحاء عليها أظهر من أيقاع {نَقُصُّ} باعتبار اشتمالها على القصة وما هو أظهر أولى بإعمال صريح الفعل فيه، وفيه من تفخيم القرآن وإحضار ما فيه من الإعجاز وحسن البيان ما ليس في إعمال {نقصذ صريحًا، وجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم، ويجوز أن يكون دأحسنذ مفعولًا به لنقص، والقصص: إما فعل عنى مفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمي به المفعول كالخلق والصيد أي نقص عليك أحسن ما يقص من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه السلام، ووجه أحسنيتها اشتمالها على حاسد ومحسود. ومالك ومملوك. وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق. وحبس وإطلاق. وخصب وجدب. وذنب وعفو. وفراق ووصال. وسقم وصحة. وحل وارتحال. وذل وغز، وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدره وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان. وأن الصبر مفتاح الفرج. وأن التدبير من العقل وبه يصلح أمر المعاض إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير.
وقيل: إنما كانت {أحسن} لأن غالب من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة، وقيل: المقصوص أخبار الإمام السالفة والقرون الماضية لا قصة آل يعقوب فقط، والمراد بهذا القرآن ما اشتمل على ذلك، و{أَحْسَنُ} ليس أفعل تفضيل بل هو عنى حسن كأنه قيل: حسن القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي القصص الحسن، والقول عليه عند الجمهور ما ذكرنا، قيل: ولكونها بتلك المثابة من الحسن تتوفر الدواعي إلى نقلها ولذا لم تتكرر كغيرها من القصص، وقيل: سبب ذلك من افتتان امرأة ونسوة بأبدع الناس جمالًا، ويناسب ذلك عدم التكرار لما فيه من الأعضاء والستر، وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف، وقال الإستاذ أبو إسحق: إنما كرر الله تعالى قصص الأنبياء وساق هذه القصة مساقًا واحدًا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص وهو وجه حسن إلا أنه يبقى عليه أن تحصيص سورة يوسف لذلك يحتاج إلى بيان فإن سوق قصة آدم عليه السلام مثلًا مساقًا واحدًا يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضًا بعين ما ذكر، وقال الجلال السيوطي: ظهر لي وجه في سوقها كذلك وهو أنها نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من الاستيعاب وترويح النفس بالإحاطة ولا يخفى ما فيه، وكأنه لذلك قال: وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية إلى ذلك كتكرير تكذيب الكفار للرسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما كذبوا أنزلت قصة منذرية بحلول العذاب كما حل بالمكذبين، ولهذا قال سبحانه في آيات: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين} [الأنفال: 38] {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} [الأنعام: 6] وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك، وبهذا أيضًا يحصل الجواب عن عدم تكرير قصة أصحاب الكهف. وقصة ذي القرنين. وقصة موسى مع الخضر. وقصة الذبيح، ثم قال: فإن قلت: قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى عليهما السلام مرتين وليست من قبيل ما ذكرت {قُلْتَ} الأولى في سورة {كهيعص} [مريم: 1] وهي مكية أنزلت خطابًا لأهل مكة، والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية أنزلت خطابًا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بهذا ذكر المحاجة والمباهلة اه.
واعترض بأن قصة آدم عليه السلام كررت مع أنه ليس المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم، وأجيب بأنها وإن لم يكن المقصود بها إفادة ما ذكر إلا أن فيها من الزجر عن المعصية ما فيها فهي أشبه قصة بتلك القصص التي كررت لذلك فافهم {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ} أي قبل إيحائنا إليك ذلك {لَمِنَ الغافلين} عنه لم يخطر ببالك ولم يقرع سمعك، وهذا تعليل لكونه موحى كما ذكره بعض المحققين والأكثر في مثله ترك الواو، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لا جلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا العدول عن لغافلا إلى ما في النظم الجليل عند بعض، ويمكن أن يقال: إن الشيء إذا كان بديعًا وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه قيل للمخاطب: كنت عن هذا غافلًا فيجوز أن يقصد الإشارة إلى غرابة تلك القصة فيكون كالتأكيد لما تقدم إلا أن فيه ما لا يخفى وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام فارقة، وجملة {كُنتُ} إلخ خبر إن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8